الثلاثاء، 23 مارس 2010

أجيال


كنا ثلاثة في ذات الغرفة أمي بصوتها المجروح بالنحيب ، ابنتي ببطنها المنتفخ كالبالون، أنا بقلقي المتفجر ،كان صوتها ينساب برعب في صمت الحجرة، وشكواها المتكررة تعيدها الجدران بملل ورتابة،ابنتي تتابعها بقلق وعدم تركيز حيث تضع يدها على كورتها الملتصقة بها تحاورها في دهشة وتوقع ،أنا بينهما مثل سلك كهربائي غير جيد التوصيل يتذبذب ويرتعش خواء، تعبرني الجمل الباكية والملتهبة ويتبدد في بقايا الكلام ، جاء صوتها متعبا وحزيناوفارغا من اللهفة ،تعيد نفس الكلمات على نفسها ، تمضغها بتعب كأنها تجد صعوبة في بلعها.
ـ كيف له أن يتركني ينساني أنا أمه لطالما منحته حبي وزهوي وحياتي ..بالنسبة لي هو لم يكبر، لم يتغير، مازال ذاك الولد الصغير، الملئ بالفرح والبهجة ..أولادي يتخلون عني ، يسعون لحياة خاصة بهم ينسلخون يبتعدون أنا احتاجهم أريدهم قربي .
تذكرت أمي في شبابها ودلالها ، سلطتها المطلقة علي الأسرة والأقارب وعرس اللقاء في بيتها الواسع ، عطائها وحبها الكبير لنا ولإخوتي الذكور خاصة ، موائدها الشهية وكرمها الذي لا يضاهى ذوت ألان ، مثل شجرة عتيقة . سكتت زوايا بيتنا الواسع الجميل، صار خراب تهرب منه حتى الذكريات .
من الطرف الأخر كانت ابنتي تتململ بضجر وهي تتقلب من جانب إلي آخر علي طرف الكنبة ويديها لا تفارق بطنها المنتفخ أمامها كأنها تخشى أن تهرب منها.
كنت أحس أن هناك حوار صامت بينهما حين يعبرني أحسه يتعثر ويتبدد كأنما أمزقه ، لكنه يعود ويتواصل ، شعرت بقلق أمي يسكن ابنتي التي تنتظر صبيا، تعيش هواجس أمي وعذاب فقدانها،وأمي تسكن حلم ابنتي وتوقعاتها وتعيد فيها ذكرياتها التي انطفأت، و ترى فيها دون أن تدري نفسها،أنا الباهتة بينهما، أرى أيامي المقبلة قد تشبه ما تعيشه أمي وأحس في صورة ابنتي مسافة شاسعة من عمري الذي عبر مني في غفلة .
آمي تجلس بوهن على كرسي متحرك ابنتي تستلقي علي الكنبة أنا اجلس بينهما علي حافة الكرسي الملاصق للباب ، وبي رغبة في الفرار من خلاله .
أتابع بوجع صوت أمي المشروخ لا يتوقف عن النحيب،انتقل منها لتوجع ابنتي وتأففها انظر باتجاه أمي يديها تمسك بقوة بحافة الكرسي فتبدو التجاعيد في التمدد والجلد يبرز العروق النافرة في غضب ووقاحة .
أتحسس يدي وارتعش ، اشعر بتلك التجاعيد تلتصق بي وترسم كل جسدي ،التفت نحو ابنتي تمسد بطنها الذي يكاد أن يندلق على ارض الغرفة أمي في طرف الكون تعبر لنهايته ابنتي تتفتح في طرف الكون الآخر مقبلة عليه بنهم ودهشة أنا بينهما أتمزق بين طرفي الكون حالة تتلاشى ، لايمكن لي أن اعبر لحظتي. هرعت فجأة إلي المطبخ .أوقدت النار وشعرت في تأملي للهب بدفء يغمرني ، تنفست عبق الرائحة القوية المنبعثة من القهوة،استعدت قليلا من توازني وحين سكبت القهوة في الأقداح وحملتها إلي الغرفة صمت حوارهما وشعرت بخيوط الكلام التي كانت تعبرني تهمد في طرفي المكان ، كان غيابي العابر قد قطع حبل التواصل بين صوت الماضي وصوت المستقبل.
نعمت بالرشفة الأولى من فنجاني حين لذعت مرارة القهوة لساني وصعدت نشوتها إلي راسي وأسلمت عيناي إلي لذة النعاس،هربت للحظة من فجيعة المخاض وهسهسة الموت ، صراخ ابنتي المفاجئ سكب في روحي ثواني من الهلع لنكتشف أنها التقلصات المعتادة للشهر الأخير من الحمل.
عاد صوت الكلام يعبرني من جديد ويخربش بقلق في ضلوعي، عادت أمي تنوح وتعيد تراتيل الفقدان وغياب أخوتي ، وابنتي تتقلب علي الكنبة كقطعة لحم فوق النار،عاد الكلام يعبرني بقوة ويسكب مرارته في امتلأت روحي بالصقيع ، ووهج الفجيعة ،وأنا انسكب بينهما يجتاحني خوف أمي وقلق ابنتي ،لم اعد أحس ذاتي ، ذبت بينهما ، شعرت بخدر أطرافي وقد اشتعل سرد الكلام في ذات الغرفة حيث أمي وابنتي وبعض من أنا، لملمت هذا البعض السابح في فراغيهما ، هذا ألانا قفزت نحو حقيبتي إشارة مني للرحيل ،حشرت جسدي في المعطف ، التقطت مفتاح السيارة المعلق بجانب الباب .
أصدرت الكثير من الضجة تأكيدا لرحيلي تمتمت بكلمات بما تعني أنني سأخرج لكنها خرجت مجرد همهمات وأصوات مبهمة ، صفقت الباب خلفي قفزت بخوف إلي داخل السيارة لم اشعر أني نجوت إلا حين أقفلت علي باب السيارة، أدرت مفتاح السيارة ، لكن المحرك لم يدور.

طرابلس شتاء 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق